الحرية الفردية- وهم أم أداة هيمنة غربية جديدة؟

يرى بعض المفكرين أن "الحرية الشخصية" هي الأهم، والقيمة الأسمى بين سائر القيم الإنسانية. ويشددون على ضرورة تناولها كقيمة مطلقة، بمعزل عن التجارب الغربية وتداعياتها المتمثلة في الظلم الذي تمارسه الدول الغربية على نطاق عالمي ضد أغلبية شعوب الأرض، والخراب الذي ألحقته بالبيئة والمناخ، بالإضافة إلى الاستحواذ الجائر على السلطة والثروات الطائلة من قبل قلة من الأفراد. ولا ننسى ما آلت إليه الأوضاع من إبادة جماعية للشعب الفلسطيني في غزة. وأخيرًا، الترسانة النووية الهائلة التي تهدد العالم بالفناء.
وعلى الرغم من ذلك، يصر البعض بإلحاح على مناقشة "الحرية الفردية" في دائرة التنظير المجرد، معتبرين إياها أرفع القيم الإنسانية، متجاهلين أو متناسين النتائج الكارثية التي ترتبت على تطبيقها، خصوصًا خارج نطاق العالم الغربي. وهنا، نود أن نسلط الضوء على النقاط التالية:
- عندما يدعو مبدأ الحرية الشخصية إلى منح كل فرد الحق الكامل في فعل ما يشاء، والاعتقاد بما يراه مناسبًا، والإفصاح علنًا عن معتقداته وآرائه، فإن هذا الطرح يثير جملة تساؤلات:
- بدايةً، هل جميع الأفعال التي يمكن للفرد القيام بها متماثلة، أم أنها تتفاوت في طبيعتها وتأثيراتها؟ ألا يجب التمييز بين الأفعال الشريرة أو الضارة بالمجتمع والوطن وتلك التي تصب في مصلحة الخير العام أو التي لا تنطوي على أذى أو اعتداء على الآخرين؟
منطق العقل السليم يقتضي عدم إطلاق العنان لمثل هذه الصيغة دون وضع ضوابط ومعايير واضحة للتفريق بين الأعمال المقبولة والمرفوضة. - وبالمثل، فإن حرية التعبير عن الرأي، إذا أُطلقت بلا قيود أو حدود، ستؤدي حتمًا إلى حالة من الفوضى والتدهور، بل وقد تتسبب في تأجيج الخلافات وتحويلها إلى عداوات مستحكمة. ويتفاقم الأمر بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالاستهزاء بالدين والمعتقدات والقيم المقدسة لدى الآخرين، أو المساس بالشرف والحريات الشخصية، أو إطلاق الاتهامات والإشاعات جزافًا دون دليل أو برهان.
هنا أيضًا، لا ينبغي أن تكون حرية التعبير عن الفكر والرأي مطلقة، بل يجب أن تخضع لضوابط وقوانين رادعة، على غرار ما تبنته الدول الغربية نفسها، حيث أصدرت قوانين صارمة لحماية الأفراد، وتجريم إنكار المحرقة أو أي انتقاد للسامية، بينما فتحت على مصراعيها الباب واسعًا للاستهزاء بمعتقدات ورموز الإسلام.
- بدايةً، هل جميع الأفعال التي يمكن للفرد القيام بها متماثلة، أم أنها تتفاوت في طبيعتها وتأثيراتها؟ ألا يجب التمييز بين الأفعال الشريرة أو الضارة بالمجتمع والوطن وتلك التي تصب في مصلحة الخير العام أو التي لا تنطوي على أذى أو اعتداء على الآخرين؟
- عندما يتم الترويج للحرية الفردية، يُفترض أنها تشمل جميع أفراد المجتمع دون استثناء. ومن المفترض أن يتمتع جميع الأفراد، أو غالبيتهم على الأقل، وفقًا لهذا التصور، بقدر كاف من الإمكانات والقدرات لممارسة هذه الحرية بشكل عادل ومتكافئ، تمامًا كما هو الحال في السباقات الرياضية. إلا أن الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي يكشف عن وجود فوارق شاسعة في الإمكانات والظروف بين الأفراد، أو بين فئة قليلة من الأفراد وأغلبية المجتمع. ونتيجة لذلك، تنشأ الاستقطابات الحادة والفروقات الطبقية والجهوية والعصبية، سواء قبل المنافسة أو بعدها.
وهذا يعني بوضوح أن الحرية الفردية لا تضمن العدالة في ممارستها لجميع الأفراد على قدم المساواة. وبالتالي، تتحول الحرية الفردية، في غياب الضوابط والمعايير العادلة، إلى امتياز واحتكار عملي لفئة معينة من الأفراد، مما ينتقص من قيمتها الجوهرية المتمثلة في تمتع الجميع بالحرية على قدم المساواة. وهذا تحديدًا ما حدث في التجربة الغربية.
لذلك، يجب أن تسبق الحرية الفردية أو ترافقها قيم العدالة والمساواة في الفرص المتاحة للأفراد في ممارسة هذه الحرية. بل يجب وضع ضوابط صارمة تمنع سيطرة الأقلية على الحرية الفردية واحتكارها لأنفسهم. - إن نظرة فاحصة ومتعمقة إلى الوضع العالمي الراهن تكشف عن انقسامه إلى معسكرين رئيسيين: الأول، مجموعة صغيرة من الدول الغربية التي تهيمن على مقاليد الأمور عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا وماليًا، وصولًا إلى السيطرة على الجامعات والمؤسسات الإعلامية والبحثية والعلمية والثقافية. وهذا الوضع يضع الشعوب والدول الأخرى في موقف لا يحسدون عليه، حيث تصبح مقيدة اليدين وغير قادرة على ممارسة حريتها الكاملة في اختيار النظام السياسي والاقتصادي الذي تريده، بما في ذلك تحديد مستوى وكيفية التعامل مع قضايا الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. وذلك ما دامت هذه الدول الغربية قادرة على فرض الحصار على الدول التي لا تروق لها سياساتها، وتقييد اقتصادها، وبالتالي إغلاق جميع الطرق أمامها، بما في ذلك حرية ممارسة مبدأ الحرية الفردية، أو تحويله إلى أداة ضغط وابتزاز ضد الدولة المعنية. ولهذا السبب، فإن قضية الحرية الفردية، بمعزل عن النموذج الغربي، لا يمكن طرحها بمعزل عن السياق العالمي، خصوصًا في ظل الهيمنة المطلقة للنظام الغربي على النظام الدولي وقدرته الهائلة على ممارسة الضغوط السياسية والمالية والاقتصادية على الدول الأخرى.
- عندما يتسبب مبدأ الحرية الفردية في تدمير الروابط العائلية والاجتماعية المتينة والتقاليد الأصيلة، تقليدًا لما يحدث في الغرب، سواء أكان ذلك نتيجة ضغوط غربية مباشرة، أو عن طريق الاقتداء الطوعي عن قناعة، فإن ذلك يؤدي إلى كوارث إنسانية وخيمة تحل بالشعوب الضعيفة أو المحرومة من الثراء الذي تنعم به الدول الغربية. وذلك حين يُطلب من الدولة أن تتحمل وحدها مسؤولية توفير الرعاية لكبار السن، وتعويض العاطلين عن العمل، وضمان الخدمات الصحية، وتوفير الأمن الاجتماعي.
لأن الروابط العائلية، وما يعرف بالتكافل الاجتماعي، عندما يتم تدميرها وتقويضها، فإن ذلك يؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي وتصدع الروابط الأسرية، فضلًا عن الدور الحيوي الذي تلعبه هذه الروابط في دعم المجتمع خارج نطاق مسؤولية الدولة. الأمر الذي يتسبب في وقوع كوارث على مستويات مختلفة، مثل رعاية كبار السن والعاطلين عن العمل، ومواجهة الأزمات الاقتصادية والسياسية، أو التصدي للحصار والحروب والكوارث الطبيعية.
لهذا السبب، يجب أن تكون الحرية الفردية متوازنة مع الحفاظ على الروابط العائلية وتعزيز التقاليد الحميدة للتكافل الاجتماعي، إذ تقوم هذه الروابط مقام ما تؤمنه دولة الرفاه في الغرب من التزامات تتعلق بالشيخوخة والبطالة، والصحة، وحتى فرص التعليم والتطور الفردي. فكيف يمكن تطبيق النموذج الغربي في ظل الظروف الصعبة التي تعاني منها الدول الفقيرة المثقلة بالديون؟ لا بدّ من إحالة الكثير من الأعباء الحياتية إلى العائلة والروابط العائلية. ومما يزيد الطين بلة، الحملة الشرسة التي يشنها دعاة الحرية الفردية على الرابطة العائلية والتقاليد الاجتماعية، تحت ستار مهاجمة الذكورية والتقاليد المتخلفة. فالتنمر لا يقتصر على ما يحدث بين الأفراد، بل هناك الكثير من التنمر على التقاليد وتراث الشعوب. - تتجلى مشكلة الحرية الفردية بشكل خاص في المنافسة الشديدة التي تطلقها بين الأفراد، خصوصًا بين الأقوياء والمتنفذين في الصراع المحموم على السلطة والثروة، إذ تتوارى القيم الأخلاقية والاجتماعية إلى الخلف لتفسح المجال أمام صراع الأفراد، وهو ما ينعكس بوضوح في المنافسة الشرسة في اللعبة الديمقراطية. وبهذا، تبدو الحرية الفردية وكأنها الغطاء المثالي لانفلات المنافسة الشرسة بين الأفراد الأقوياء، فيما تضطر أغلبية الأفراد إلى الانجرار وراء أطراف هذا الصراع أو التهميش والإقصاء، حيث لا مكان هنا للحرية الفردية الحقيقية، لتتحول إلى حق مكتسب نظريًا لا يمارس على أرض الواقع.
- عندما تُعطى الحرية الفردية الأولوية المطلقة على حساب احترام الحاجات الأساسية لجميع الأفراد أو الأغلبية، وتطغى على القيم والحاجات الفردية الأخرى، مثل احترام كرامة الإنسان، وتأمين الاحتياجات الأكثر إلحاحًا، أو الضرورات الوطنية الملحة، فإن ذلك يسيء إلى الفرد ويخل بتوازنه النفسي والاجتماعي. هذا فضلًا عن الحقوق الأخرى التي لا تقل أهمية، مثل حق الفرد في العمل والتعليم والضمانات الصحية أو الأمن الشخصي والحماية الاجتماعية والعدالة.
أما في المقابل، فيجب عدم تشجيع الأخلاق السيئة مثل الخداع والنفاق والانتهازية والأنانية والجشع وراء المال، والسعي المحموم للحصول على الملذات، فيما الأغلبية محرومة من أبسط متطلبات الحياة الكريمة، خصوصًا بالنسبة إلى الأفراد من الطبقات والفئات الفقيرة والمهمشة.
هذا كله يفسر كيف تحول مبدأ الحرية الفردية إلى سلاح فتاك يستخدمه الغرب لإضعاف الأمم الأخرى أو اختراق توجهات شبابها. ومن ثم، لا معنى للتركيز على الحرية الفردية في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي تفتقر فيها أغلبية الأفراد إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة. ناهيك عن حرية الشعب والوطن، وحرية البلد واستقلاله، وتمتعه بخيراته. ولهذا، فإن استبعاد هذه الأولويات الملحة يجعل الحديث عن أولوية الحرية الفردية ضربًا من الترف أو محاولة للهروب من مواجهة التحديات الكبيرة التي تواجه شعوبنا، وفي مقدمتها قضية تحرير فلسطين. ناهيك عن قضايا الشباب واليأس من المستقبل.
وخلاصة القول، عندما يتم تحديد مجموعة النواقص أو نقاط الضعف التي يجب معالجتها من أجل تحقيق نهضة الأمة أو المجتمع، فإن الافتقار إلى الحرية الفردية لن يكون على رأس هذه القائمة. وإذا ذكرت الحرية الفردية، فإنها لن تكون ضمن الأولويات الأكثر أهمية.
وعندما يطرح السؤال: "ما العمل؟ وكيف نواجه التحديات التي تعيق تقدم بلادنا العربية، بل وكل قطر من أقطارها؟"، فإن الحرية الفردية لن تكون من بين الأولويات التي تساعد على التصدي لهذه التحديات والمعوقات.
فقضايا مثل الفقر المدقع والبطالة المتفشية والفساد المستشري (نهب ثروات الشعب) والاستبداد السياسي أو الانقسامات والصراعات الداخلية، أو قضايا التحرر من الهيمنة الخارجية، أو نهب ثروات البلاد، أو تحرير فلسطين، أو حتى توفير الفرص المناسبة لمعالجة مشكلات الشباب، كلها قضايا مصيرية أكثر إلحاحًا من التركيز المفرط على الحرية الفردية.
ومما يزيد الأمور تعقيدًا، أن الهجرة والهروب أصبحا الخيار الأول للكثيرين بدلًا من مواجهة المشكلات والتحديات عبر العمل الجمعي المنظم. وهنا تبرز إشكالية التركيز على الحرية الفردية، التي لا تشكل أولوية حقيقية للإصلاح والتغيير أو الثورة المنشودة، بل تُستخدم أحيانًا لتبرير الهروب من مواجهة القضايا الكبرى.
وحتى الاستبداد السياسي، يمكن علاجه عن طريق تغييره واستبداله بنظام عادل وليس فقط عن طريق المطالبة بالحرية الفردية. لقد عالجت دول الغرب مشاكلها عن طريق السيطرة على الدول الأخرى ونهب ثرواتها، وعالجت تناقضاتها الداخلية بفضل ما وفرته لها وفرة ثرواتها.
ولعب النظام الرأسمالي الإمبريالي القائم على الحرية الفردية والنهب الخارجي دورًا كبيرًا في تحقيق ذلك، سواء في شكله البدائي أو المتطور (النظام العالمي بأبعاده جميعًا). فضلًا عن الدمار الهائل الذي أحدثته فلسفة الحرية الفردية الرأسمالية في الغرب على البيئة والطبيعة.
لهذا، يجب على شعوب العالم الثالث (المستعمرات سابقًا) أن تشق طرقًا أخرى لمعالجة مشاكلها، تختلف جذريًا عن الطريق الغربي الذي يولي الأولوية القصوى للحرية الفردية.